د. عبد الرحمن السلمي
يلاحظ المتأمل في كتابات كثير من الأدباء الذين بهروا بالثقافة الغربية وأسروا ببريقها ولمعانها نوعاً من " جلد الذات " و " تقديس الآخر " وجلد الذات ناتج عن شعورهم بمركب النقص أمام طغيان المدنية وكثيراً ما يصفون الذات بالتخلف والهمجية والانحطاط والرجعية وهذه الذات المترهلة على حسب زعمهم من إفرازات " الثقافة الظلامية" زعموا! ولذلك فهم يغمزون في الظلام ثقافة الأمة وتاريخها وأمجادها ويسعون جاهدين إلى تهميش وتقزيم صورة من يحمل تلك المبادئ ومن يتغنى بهاتيك الأمجاد.
وأما البلاد التي نشأت على ربوعها تلك الثقافة فهي على حد زعم كبيرهم الذي علمهم التحرر بلاد " الجنون والصداع والسعال " ونزار قباني الذي تباكى عليه الرفاق وأعلنوا عند موته الحداد على الثقافة يعد " أنموذجاً " في جلد الذات حيث يقول : انعى لكم يا أصدقائي
اللغة القديمة والكتب القديمة
انعى لكم
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة
ومفردات القهر والهجاء والشتيمة أنعى لكم ،أنعى لكم .
نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة " الأعمال السياسية الكاملة 3/71" وهذا الجلد تختلف درجات حدته من شخص لآخر بحسب درجة بعده ورفضه لثقافته الأم.
والعجيب أن هذا الجلد والذي مر معنا أنه يهدف إلى زعزعة ثقافة الأمة ولغتها وتاريخها يواجه التصفيق والتشجيع . وكيل عبارات الثناء والمديح لهذا " الشاعر " الجلاد !
من قبل شرائح كبيرة من جمهور المحتسبين في الأمسيات الشعرية والمنابر الإعلامية ذلك أن الأمة قد مسخت عقولها التبعية الخادعة حيث جعلت القديس في منزلة إبليس وجعلت الخواء الفكري والعقلي أساساً لتسيير الأفكار والعقائد الضالة والمحرفة من غير نكير بل بإجلال وتصفيق وإلا فأين العقول وأين الإباء وأين الحمية في أقوام يصرخ فوق رؤوسهم جاهل بأنهم ماشية تبول على نفسها ومجانين في مصحة الأمراض العقلية وسفهاء وكذابون وغادرون ومع ذلك يصفقون له ويشجعونه ويمتدحونه ؟ " الانحراف العقدي في الأدب المعاصر" سعيد الغامدي " جـ 1 ص 539" .
وهذه الصورة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار فهي لا تحتاج إلى مجهر أو إعادة التقاط !
وأما " تقديس الآخر " فهي حالة من الهستيريا أصابت أبناء جلدتنا نتيجة الانبهار الشديد الآسر للنفوس بما عند الغرب ولذا فهم يصفون " الآخر" بالتقدم والوعي والانفتاح والحضارة وهدفهم بذلك تقديس ثقافة القوم وقيمهم ومبادئهم وأخلاقهم ومعتقداتهم .
وهذا التقديس الذي يصل إلى حد " التأله" في كتابات كثير من المنهزمين سببه نظرتهم المتضخمة إلى الحضارة الغربية ومقياس نجاحها بكثرة مخترعاتها وابتكاراتها .
وهذا هو " الاستلاب " حين يصبح المثقف منهم منفصلاً عن ذاته عبداً لشهواته أسيراً للمخترعات الحديثة والنظم الاجتماعية الغربية وقد دوت صرخات حكماء الغرب محذرة من أن هذه الحضارة أصبحت على حافة هاوية وأنها رغم كثرة مخترعاتها ومبتكراتها لم تستطيع أن تسعد الإنسان بل أن الإنسان الغربي قبل عصر النهضة كان أكثر سعادة منه الآن ولا أدل على ذلك من ارتفاع نسب الجرائم المنظمة ، والاعتداءات الجنسية والانتحار وتحلل القيم الاجتماعية والتفكك الأسري أضعاف ما كانت عليه قبل عصر التقدم والرقي.
وهذا الابتكارات والمخترعات في الوقت الذي أوجدت فيه مساحات شاسعة أمام الإنسان للعمل والتقدم قد ساعدت على فقر الإنسان وعجزه حيث تعلق بها وأصبحت جزءاً من حياته لا يستغني عنها ولا يعيش دونها ويكفي في ذلك أن نعرف أن ثروة الإنسان الحقيقية وغناه ليست بكثرة ممتلكاته وأمواله ومدخراته وإنما بعدد الأشياء التي يستطيع أن يعيش حياته غير محتاج إليها .
وهؤلاء المبهورون اليوم يدخلون من باب يتدافع الناس في الغرب للخروج منه فحكماؤهم يصفون حضارتهم بالسقوط الأخلاقي حيث " محيطات" الجنس والرذيلة ويصفونها بالجفاف الروحي حيث طغيان المادة وتحلل القيم وارتفاع نسب الانتحار قال " لورانس جولد" في تعليقه على ما يجري في الشارع الأمريكي ، " أنا لا أعتقد أن الخطر الأكبر الذي يهدد مستقبلنا يتمثل في القنابل النووية أو الصواريخ الموجهة آلياً.. إن الحضارة الأمريكية ستزول وتنهار عندما تموت العزيمة على إبقاء الشرف والأخلاق في قلوب المواطنين " " السقوط التراجيدي أمريكا عام 2020م هاميلين " .
إن هؤلاء المبهورين بحضارة " الآخر " يحتاجون إلى تصحيح مفاهيمهم حول معيار الحضارة الحقيقي ويحتاجون إلى توسيع نظرتهم حتى تشمل الجانب الآخر من حياة الغرب جانب الانحطاط والسقوط الأخلاقي والتردي الاجتماعي ويحتاجون إلى إعادة الوعي والتصور الإسلامي الصحيح للثقافة والتقدم والحياة عموماً وحينما تتألق نجومهم في السماء فسوف تأفل نجوم الآخرين .
جريدة المدينة – ملحق الأربعاء
|