الآثار النفسية لصلة الرحم وطرق علاجها

  

اعداد الدكتور محمد القرني استشاري علاج نفسي
مقالة جريدة المدينة-الرسالة..بتاريخ19/6/1430ه

  يأمرنا ديننا الإسلامي الحنيف بالتحلي بالقيم الإسلامية الإنسانية السامية لما في ذلك من صلاح وصلاحية للبشر والبشرية علي السواء، لأن المؤمن القوي والصادق في إيمانه هو الذي يسير علي صراط ربه المستقيم بلا جنوحٍ أو انحرافٍ أو اعوجاجٍ عن هذا الصراط، وأن يكون التحلي بالمثل والقيم الإسلامية العليا والسامية هو دستوره ومنهجه في هذه الحياة وفي التعامل مع ما يحيط.  وان دعوة الإسلام لصلة الرحم تحمل الكثير من معاني الإيمان والتضحية والبذل والعطاء والوفاء ودافع للعطف والحب والحنان وهذه المعاني والفوائد لا تعود علي الفرد فحسب ولكنها تعود علي المجتمع برمته ولهذا تأكدت الدعوة في كثير من الآيات القرآنية والسنة النبوية المطهرة التي تدعو إلي صلة الرحم وتحذر في الوقت نفسه من قطيعتها ومن هنا فإن الرحم وصلة الرحم لها أهمية قصوى في الإسلام وهذا ما أكده القرآن الكريم حيث يقول الله تعالي في مُحكم تنزيله: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمي أبصارهم"   محمد الآيتان 22-23 .  كما يدعونا المولي عز وجل في كتابه العزيز الحكيم إلي صلة الرحم والعناية بها حيث يقول تبارك وتعالي في سورة النساء: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا"  النساء  الآية 1

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال لئن كُنت كما قُلت فكأنما تُسفهم الملل ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دُمت علي ذلك" رواه مسلم، ومعني تُسفهم الملل أي تُطعمهم الرماد الحار ((أبو زكريا النووي: 1979، ص 133- 140)  ومن هنا فإن الشريعة الإسلامية السمحة بما تضمنته من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة تحثنا علي احترام القيم الإسلامية الإنسانية السامية ومنها صلة الرحم وبر الوالدين والإحسان إليهما.

      و تُوجد العديد من الآثار النفسية الإيجابية المترتبة علي صلة الرحم، لأنها تُؤدي إلي شعور الفرد بالانتماء  إلي جماعته مما يؤدي إلي التوافق والتكامل  والتآخي والتفاعل الاجتماعي البناء بين الأفراد وجماعتهم التي يعيشون فيها، كما يؤدي إلي التقليل من نسبة الجُناح والفشل الدراسي وغيره من الاضطرابات والمشكلات النفسية والاجتماعية، فقد أكدت نتائج الدراسات السيكولوجية أن نسبة كبيرة من الأحداث الجانحين هم من نُزلاء المؤسسات الإصلاحية  ويعانون في الوقت ذاته من التفكك الأسري  والشعور بالضياع نتيجةً لانعدام واضطراب الروابط الأسرية وفقدان الشعور بالأمن والأمان والانتماء، كما تُؤدي صلة الرحم إلي انخفاض نسبة الجريمة  في المجتمع لما يسود بين أفراد هذا المجتمع من تعاطفٍ وتماسكٍ ومن ثم الفرد الذي يتسم بصلة الرحم يتخلص من القلق  والتوتر النفسي  لأن الحاجة للأمن و الانتماء من الحاجات النفسية الهامة والتي لا يمكن للفرد إشباعها إلا وسط جماعة يشعر بالانتماء إليها ومن خلالها يُحقق ذاته وينعكس أثر ذلك علي إنتاجية الفرد بوجهٍ خاص والمجتمع بوجهٍ عام، فيزداد الإنتاج وتقل حوادث العمل ويخلق هذا الاتجاه تماسكاً وتضامناً عملاً بقوله تعالي : " وتعاونوا علي البر والتقوى ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب" سورة المائدة الآية 2

      و صلة الرحم تؤدي أيضاً إلي شعور كل فرد من أفراد المجتمع بأنه محبوب ومرغوب فيه فسود إحساس لدي الجميع بالسعادة والارتباط ويتخلص أفراد المجتمع من الأنانية المفرطة التي تُعرف في علم النفس " بالنرجسية" Narcissism والتي تُشير إلي حب الذات وعشقها، عملاً بحديث رسولنا الكريم صلوات الله عليه وتسليماته حيث يقول صلي الله عليه وسلم" لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه " أخرجه البخاري.  والجدير بالإشارة أيضاً أن صلة الرحم يترتب عنها أن يسود جو من الألفة والمودة بين المسلمين عامة وبين ذوي القربى والأسرة الواحدة خاصة، إذ يجد الفرد من يقف بجواره في الشدائد ليشد من أزره وليخفف عنه الألم ويشعره بأن هناك من يشاركونه أحزانه ومشاعره الأليمة من جانبٍ، وأن هناك من يشاركه أفراحه ومناسباته السارة والسعيدة من جانب آخر ويجدهم حوله يهنئونه وبالتالي تقوي الروابط ويصبح المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً كالجسد الواحد، فضلاً عن أنه في الأعياد الإسلامية عندما يلتقي ذوي القربى يشعر كل منهم بالتوحد والانتماء الديني وأنهم يجتمعون علي عقيدةٍ واحدةٍ وينتمون إلي أمةٍ قويةٍ ومتماسكةٍ هي الأمة والشريعة الإسلامية السمحة. ولا شك أنه في ظل التعاون والتماسك  تستطيع الكثير من الكائنات الدقيقة أن تُحقق أهدافها ببراعة فائقة مثل النمل والنحل وهذا ما تعجز عنه الكثير من الكائنات الأخرى غير المتماسكة والتي تفوقها عشرات المرات في القوة والجسم والحجم .    

 وتُعانيه بعض المجتمعات الغربية من الجريمة والجنوح والانحراف والتفكك والضياع خاصةً بين صفوف الشباب والمراهقين والمراهقات في تلك المجتمعات الغربية حيث يستقل المراهق والمراهقة عن الأسرة أثر بلوغه سن خمسة عشر عاماً وبالتالي يترتب عن ذلك مشاهدتنا الكثير من حالات الانتحار والجريمة ويتناول الشباب الخمور والمخدرات والمغيبات لنسيان ما قد يُعانون منه من صراعاتٍ وتوتراتٍ وإحباطاتٍ وقلقٍ نتيجةً لفقده للروابط والانتماء الأسري فضلاً عن عدم وجود عقيدة قوية وراسخة تجمعهم علي هدفٍ واحدٍ وتؤلف بين قلوبهم ولذلك يُعاني الشباب هناك في تلك المجتمعات من الفراغ الروحي والديني والخلقي مما يترتب عنه العديد من الاضطرابات النفسية. وهذا ما يوضح بجلاءٍ أن إسلامنا الحنيف يحرص علي كل ما ينفع الناس ويحقق الخير والرفعة والرفاهية للإنسانية جمعاء ويوحد بين صفوفهم ويجنبهم ما يضرهم ويتضح ذلك تعليم الإسلام السمحة، كما لا يُخفي علي أحدٍ فضل الإسلام علي البشرية لأنه جاء بمنهاجٍ شاملٍ قويمٍ في تربية النفوس وتنشئة الأجيال وتطوير الأم وبناء الحضارات وإرساء قواعد الجد والمدنية والاستقرار6  وفوق كل ما تقدم فإن صلة الرحم من دعامات الإيمان بالله تعالي كما أنه تُعمر الدنيا وتغفر الذنوب والخطايا وترفع الفرد إلي الدرجات العُلي، ولقد صدق رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم حين قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم ، رواه الشيخان. ومن هنا فإن صلة الرحم هي السبيل الوحيد لتقوية أواصر الصلة والتعاون والتواد والتراحم بين فصائل وأفراد المجتمع الإسلامي لأن هذا التماسك وصلة الأرحام تنعكس آثارها النفسية والاجتماعية ليس علي الفرد فحسب ولكن علي المجتمع بأكمله.

   وانجح علاج لظاهرة قطع صلة الرحم  مايقعُ علي عاتق مؤسسات التربية من عبء لتقوية صلة الرحم فأولي هذه المؤسسات الأسرة فيجب علي الأسرة تنشئة الطفل منذ نعومة أظافره علي قيم الوفاء والولاء والانتماء والشعور بالحب والود المتبادل بين الطفل وبين باقي أفراد أسرته، كما ينبغي توفر النموذج والقدوة الحسنة أمام الطفل فإنه من الواجب توفر النموذج والقدوة الحسنة أمام الطفل لأنه في تلك المرحلة يكون قابلاً للتقليد والمحاكاة وأولا بنا أو نوفر له النموذج الطيب الذي يستطيع أن يُحاكيه ويقلده، وهذا عن دور الوالدين في المنزل فالأسرة يجب عليها غرس قيم الانتماء والولاء في نفوس صغيرها وصغيرتها منذ نعومة أظافره، فاصطحاب الأب والأم لابنهم منذ صغره لزيارة وود أقربهم يُساهم بشكلٍ كبيرٍ في أن يشُب هذا الطفل رجلاً يحرص علي صلة الرحم، ويأتي دور المدرسة مكملاً لدور الأسرة ومن هنا فإن تدريس أو إلحاق موضوع وقيم صلة الرحم في مواد التربية الإسلامية في مدارسنا يعتبر خير مُعينٍ وموجهٍ ومرشدٍ لطلابنا وطالباتنا علي صلة أرحامهم، كما أن وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية - بما تحويه من مواد إعلامية ورسالة إعلامية بناءة ومؤثرة في نفوس النشء والشباب- مُطالبة بالحث المستمر والتشجيع علي القيم الإسلامية السمحة مثل قيمة صلة الرحم ومطالبة في الوقت ذاته بإبراز الفوائد المترتبة علي تقويتها من جهة والأضرار المترتبة علي تقطيعها من جهةٍ أخري، والمؤسسات الدينية أيضاً مُطالبة بتجديد الخطاب الديني وتوجيهه نحو تنمية وتأصيل مثل هذه القيم الإسلامية الإنسانية السامية، لأن الأمة الإسلامية جمعاء خرجت من رحمٍ واحدٍ ويجمعهم كتاب واحدٌ، ورسولٌ واحدٌ ودستورٌ واحدٌ وهو القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
          


آخر تحديث
11/5/2009 10:56:08 AM