مساحة الحرية والمسؤولية في الشركات الفقهية والنظامية

مساحة الحرية والمسؤولية في الشركات الفقهية والنظامية

د.يوسف بن أحمد القاسم

لقد اعتنى الفقه الإسلامي بالمعاملات المالية عناية فائقة, ولهذا نجد الفقهاء ـ رحمهم الله تعالى ـ قد قسموا أبواب الفقه إلى عبادات, ومعاملات, وقضايا أسرية, وجنايات, وقصاص, وحدود, وقضاء... إلخ

ثم نجد الفقهاء قد أعطوا المعاملات نصيبا خاصاً بالعناية والكتابة والتأليف, وذلك لأهميتها, وتشعبها, وكثرة تفاصيلها, فنجد باباً خاصاً للبيوع, وللسلم, وللإجارة, وللشركة, وللحوالة, وللضمان, وللرهن... إلخ

ثم خمسة أبواب "فقط" نجدها في كتاب المغني مثلا لابن قدامة في أكثر من 600 صفحة...! بل ألفوا كتباً خاصة لأنواع معينة في المعاملات منذ زمن مبكر, ككتاب الخراج لأبي يوسف (ت182هـ) وكتاب الكسب لمحمد بن الحسن الشيباني (ت189هـ), وكتاب أحكام الأوقاف لأبي بكر الخصاف (ت216هـ), وهكذا.

ولسماحة الشريعة الإسلامية نجد أنها قد جعلت الأصل في المعاملات الحل وليس الحرمة, وأن الأصل فيها الصحة وليس البطلان, وبهذا كانت الحرمة والبطلان هما الاستثناء, وليس العكس, وقد وضع الشارع الحكيم خطوطاً عريضة, كضوابط شرعية للمعاملات, وقواعد عامة تضبط التداولات, فحرم الربا, والغرر, والتغرير, والظلم, وأكل أموال الناس بالباطل, وذلك لينعم الناس بمعاملات نزيهة, تحفظ الحقوق, وتحقق المصالح, وتدرأ المفاسد, وترسم معالم العدالة, ولهذا فإن أي محاولة لحمل الناس على إيقاعهم في الأمور المحرمة, فإنها تحقق عكس مراد الشارع, وتمهِّد لأرضية خاطئة ظالمة, تضر بالمتعاملين وبالسوق على حد سواء, وينعكس أثرها السلبي على الفرد والمجتمع.

ولو أخذنا مثالاً على سماحة الشريعة الإسلامية ومرونتها في باب الشركات مثلا, لوجدنا أن الفقه الإسلامي قد استوفى جميع صور الشراكة, سواء كانت في المال, أو في العمل, أو في الجاه, فالشركات، إما أن تكون في الأموال (كما في شركة العنان, والمفاوضة)، وإما أن تكون في الأعمال (كما في شركة الأبدان)، وإما أن تكون مزيجاً بين الأموال والأعمال (كما في شركة المضاربة)، وإما أن تكون في الجاه (كما في شركة الوجوه), وبهذا لا يمكن أن تخرج أي صورة من صور الشركات القديمة والحديثة عن هذا التقسيم, أعني التقسيم الثلاثي لمحل الشراكة: "المال, والعمل, والجاه", فمثلاً, بالنظر إلى واقعنا المعاصر نجد الشركات الست الموجودة في نظام الشركات السعودي لا تخرج عن هذا التقسيم:

فالشركات "التضامنية", و"التوصية البسيطة", و"المحاصة", تسمى شركات أشخاص؛ لأنه يغلب فيها الاعتبار الشخصي, وهي في الواقع لا تقوم إلا على المال, أو على المال والعمل (الإدارة) والشركات "المساهمة", و"التوصية بالأسهم", و"ذات المسؤولية المحدودة", تسمى شركات أموال, وهي في الواقع- أيضا- تقوم إما على المال, أو على المال والعمل.

ومن حسنات نظام الشركات السعودي أنه نص في مادته الثانية على"عدم المساس بالشركات المعروفة في الفقه الإسلامي" علماً أن هامش الحرية في شركات الفقه أوسع منه في باب شركات النظام من عدة أوجه, يتضح بعضها مما سبق, ومن ذلك:

أن شركات الفقه سمحت بالجاه أن يكون مدخلاً للشراكة, حيث يبدأ الشريكان من الصفر, فيشتريان بجاهيهما ما يكوِّنان به رأسمال الشركة, أما النظام فقد نص على أنه "لا يجوز أن تكون حصة الشريك ما له من سمعة أو نفوذ" ولكن يمكن أن يقال: الممنوع هنا (نظاما) هو اكتفاء الشريك بحصة السمعة والنفوذ, أما شركة الجاه في باب الفقه فإنها تبدأ بالجاه, مروراً بالعمل "لأن الشريكين يشتريان بجاهيهما" وانتهاء بالمال, فشركة الوجوه في النهاية: مزيج بين الجاه, والعمل, والمال.

أن شركات الفقه لم تضع سقفاً أدنى ولا أعلى, سواء فيما يتعلق برأس المال, أو فيما يتعلق بعدد الشركاء, وبالتالي للشركاء الحرية المطلقة في البدء بشراكة بأي رأسمال ولو كان محدوداً, بل ولو لم يكن لديهما مال أصلا, كما في شركة الوجوه, وشركة الأبدان "وتسمى الصنائع, أو التقبل" ومن صورها في عصرنا الحاضر: عمَّال المقاولات لو اشتركوا فيما بينهم على أساس تقبُّل الأعمال, سواء في مجال البناء, أو اللياسة, أو تركيب المواد الصحية... إلخ, ولا ريب أن هامش الحرية الواسعة في شركات الفقه تمنح الشركاء مجالاً رحباً في تحديد الأرضية المناسبة للبدء في مشروع الشراكة, ولو كان يبدأ من الصفر, وهذا جانب إيجابي في فتح مجال الاستثمار بأي طريقة ممكنة, حيث يمكن أن تكون الشراكة متاحة حتى لمحدودي الدخل, ولمن هم دون خط الفقر, ولهذا أطلق على شركة الوجوه: شركة المفاليس؛ لأنها تبدأ ممن لا يملك فلسا...! أما شركات النظام, فكثير منها قد وضع له سقف أدنى أو أعلى, سواء في رأس المال, أو في عدد الشركاء, فمثلاً نجد شركة "المساهمة المقفلة" لابد أن يكون سقفها الأدنى من رأس المال لا يقل عن مليوني ريال, وشركة "المساهمة المفتوحة أو العامة" لا بد أن يكون سقفها الأدنى من رأس المال لا يقل عن عشرة ملايين ريال (تغير هذا السقف في مشروع النظام الجديد إلى 100 مليون ريال) ولا يقل عدد الشركاء في شركة "المساهمة بنوعيها" عن خمسة شركاء, ولا يزيد عدد الشركاء في الشركة "ذات المسؤولية المحدودة" على 50 شريكاً, ولابد أن يكون السقف الأدنى لرأسمال الشركة ذات المسؤولية المحدودة 500 ألف ريال, وهكذا.

وبالتأمل نجد أن كثيراً من هذا التقنين نابع من وراء فكرة "تحديد مسؤولية الشريك", ولهذا لا نجد تحديد السقف الأدنى من رأس المال إلا في الشركات التي يحظى الشركاء فيها بمسؤولية محدودة, وهي شركة "المساهمة بنوعيها, والشركة ذات المسؤولية المحدودة" وهنا يرد تساؤل, وهو: ما مدى مشروعية تحديد مسؤولية الشريك..؟

والواقع أن الفقهاء المعاصرين اختلفوا في هذه المسألة على أقوال, أبرزها:

أن تحديد المسؤولية جائز شرعاً.

أنه غير جائز شرعا.

أنه جائز فيما إذا لم يعط المساهمون المسؤولين في الشركة الإذن بالاستدانة والاقتراض ونحو ذلك "فيما هو مباح شرعا" وغير جائز فيما إذا أعطوهم الإذن بذلك.

وسبب الخلاف بين الفقه والنظام في هذه المسألة: أن من وضع نظام الشركات في الأساس (وهم الإنجليز والفرنسيون) لم ينظروا إلى شغل الذمة بحقوق الناس, بناء على الفكرة الرأسمالية, ولهذا ذهبوا إلى تحديد مسؤولية الشريك؛ حيث لو زادت الخسارة أو الديون عن رأس المال, فإن الخسارة لا تطوله إلا في حصته من الأسهم, دون بقية أمواله (خلافاً للشركاء المتضامنين) وبذلك يخرج الشريك من ورطة الديون والخسائر كما تخرج الشعرة من العجين, وهذا لا يتفق مع مبادئ الفقه الإسلامي, والذي يعتبر حقوق الناس خطاً أحمر لا يجوز المساس به, ناهيك أن تبرئة الشريك من الديون والخسائر الزائدة عن رأس المال, يعني أنه يمكن التلاعب بمقدرات الناس, ثم التهرب منها بذريعة المسؤولية المحدودة, ولهذا كثيراً ما يتعرض هذا النوع من الشركات لخسائر (ولا سيما الشركات ذات المسؤولية المحدودة؛ لقلة رأسمالها, نسبةً إلى الشركات المساهمة).

إن المسؤولية المطلقة للشريك (كما هو الحال في الشركاء المتضامنين) إضافة إلى أنها متفقة مع براءة الذمة من الحقوق, فإنها تدفع الشركاء إلى بذل قصارى جهدهم لاتخاذ قرارات استثمارية ناضجة, وهذا البعد الأخلاقي في المسؤولية, والبعد الاقتصادي في اتخاذ القرارات الناضجة, يدل على حكمة الشارع الحكيم من وراء هذا التشريع الإلهي العظيم...!


آخر تحديث
5/31/2009 9:09:07 PM