مقدِّمة
في أهمية الإفتاء، وعِظَم خَطَره، وفَضله
اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل؛ لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائمٌ بفرض الكفاية، ولهذا قالوا: المفتي موقِّعٌ عن الله تعالى.
- عن ابن المُنْكَدِر، قال: العالِـمُ بين الله تعالى وخلقه، فلينظرْ كيف يدخلُ بينهم.
- وجاء عن السلف وفضلاء الخَلَف من التوقُّف عن الفتيا أشياءُ كثيرةٌ معروفةٌ، نذكر منها أحرفاً تبرُّكاً:
- فعن عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، قال: أدركتُ عشرين ومئةً من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردُّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجعَ إلى الأوَّل.
- وفي رواية: ما منهم مَن يحدِّث بحديثٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتى عن شيءٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا.
- وعن ابن مسعود وابن عباس y : مَن أفتى في كلِّ ما يُسأل فهو مجنونٌ.
- وعن الشَّعبيِّ والحسن وأبي حَصين – بفتح الحاء – التابعيين، قالوا: إنَّ أحدكم ليفتي في المسألة، ولو وَردَت على عمر بن الخطاب t لجمع لها أهل بدرٍ.
- وعن عطاء بن السائب التابعي قال: أدركتُ أقواماً يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يُرْعَد.
- وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان: إذا أغفَل العالم (( لا أدري )) أُصيبَت مقاتِلُهُ.
- وعن سفيان بن عيينة وسَحْنون: أجسَرُ الناس على الفتيا أقلُّهم علماً.
- وعن الشافعي، وقد سئل عن مسألةٍ فلم يُجب ؛ فقيل له، فقال: حتى أدري أن الفضلَ في السكوت أو في الجواب.
- وعن الأثرم: سمعتُ أحمد بن حنبل يُكثر أن يقولَ: لا أدري ؛ وذلك فيما عرفَ الأقاويل فيه.
- وعن الهيثم بن جميل: شهدتُ مالكاً سئل عن ثمانٍ وأربعين مسألةً، فقال في ثنتين وثلاثين منها: لا أدري.
- وعن مالكٍ أيضاً، أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألةً، فلا يجيب في واحدةٍ منها، وكان يقول: مَن أجاب في مسألةٍ فينبغي قبل الجواب أن يَعرض نفسَه على الجنة والنار، وكيف خلاصُه ؛ ثم يجيب.
- وسئل عن مسألةٍ، فقال: لا أدري ! فقيل: هي مسألةٌ خفيفةٌ سهلةٌ، فغضب، وقال: ليس في العلم شيءٌ خفيفٌ. أما سمعتَ قوله جل شأنه: ) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ( ؟ فالعلم كلُّه ثقيلٌ، وبخاصَّةٍ ما يُسأل عنه يوم القيامة.
- وقال: إذا كان أصحاب رسول الله r تَصْعب عليهم مسائل، ولا يجيب أحد منهم في مسألةٍ حتى يأخذ رأي صاحبه. قال: مع ما رزقوا من السَّداد والتوفيق مع الطهارة، فكيف بنا الذين قد غطَّت الخطايا والذنوبُ قلوبَنا ؟
- وقال الشافعي: ما رأيتُ أحداً جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عُيينة، أسكتَ منه على الفتيا.
- وقال أبو حنيفة: لولا الفَرَق من الله تعالى أن يضيعَ العلمُ، ما أَفتَيتُ ؛ يكون لهم المَهنأ وعليّ الوِزر.
- وكان سَحْنون بن سعيد يُزرى على مَن يَعجل في الفتوى، ويذكر النهي عن ذلك عن المتقدمين مِن مُعَلِّميه، وقال: إني لأُسئل عن المسألة فأعرفُها، وأعرفُ في أي كتابٍ هي، وفي أي ورقةٍ، وفي أي صفحةٍ، وعلى كم هي مِن سَطْرٍ، فما يمنعني من الجواب فيها إلا كراهةُ الجرأة بعدى على الفتوى.
وقول الله تبارك وتعالى: ) وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ~ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( [النحل: 116-117 ] شاملٌ بمعناه مَن زاغ في فتواه فقال في الحرام: هذا حلالٌ، أو في الحلال: هذا حرامٌ أو نحو ذلك.
- وروى أبو عمر ابن عبد البر الحافظ بإسناده عن مالكٍ قال: أخبرني رجلٌ أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي فقال له: ما يبكيك ؟ وارتاع لبكائه، وقال له: أمصيبةٌ دخلتْ عليك ؟ فقال: لا. ولكن استُفْتي مَن لا علم له، وظهر في الإسلام أمرٌ عظيمٌ. قال ربيعة: ولبعض مَن يفتي هاهنا أحقُّ بالسجن من السُّرَّاق.
رحم الله ربيعة، كيف لو أدرك زماننا هذا ؟
وأقوالهم في هذا كثيرةٌ معروفةٌ.
- قال الصَّيْمَريُّ والحافظ الخطيب: وقلَّ مَن حَرَص على الفُتيا، وسابقَ إليها، وثابرَ عليها ؛ إلا قلَّ توفيقُه، واضطربَ في أمره. وإنْ كان كارهاً لذلك، غيرَ مُؤثرٍ له، وما وجد عنه مندوحةً، وأحال الأمر فيه على غيره ؛ كانت المعونةُ له من الله أكثر، والصلاحُ في جوابه أغلب.
واستدلاَّ بقوله r في الحديث الصحيح: (( لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَن مَسْأَلَةٍ أُوكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَن غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنتَ عَلَيْهَا )).
وما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
* * *
هذه المقدِّمة في تعظيم شأن الفُتيا ملخصةٌ من مقدِّمة المجموع شرح المهذَّب، للإمام النووي: (1/72-73)، وكتاب أدب الفتوى للإمام أبي عمرو ابن الصلاح (ت 643 هـ)، تحقيق أستاذنا د.رفعت فوزي (ص 26-35).
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
المجموعة الأولى من فقه العبادات
المجموعة الأولى من فقه المعاملات
|